في العاشر من ديسمبر عام 2017، انطوت صفحة مظلمة من تاريخ العراق، وارتفعت رايات الفرح على أرضٍ روّتها دماء الشهداء وصيحات المجاهدين. إنه يوم النصر، اليوم الذي أعلن فيه تحرير العراق من عصابات داعش الإرهابية، تلك الفئة الباغية التي جلبت الموت والخراب، وأرادت أن تكسر إرادة هذا الشعب الصامد.
لقد كان هذا النصر حصاد أعوام من التضحية والصبر، وجاء كخاتمة لملحمة إنسانية عظيمة تجسد فيها إيمان العراقيين بأرضهم ووحدتهم، فكانوا كالجسد الواحد في مواجهة الشر. بدأ التحول الكبير عندما أطلقت المرجعية الدينية العليا فتوى الجهاد الكفائي، تلك الفتوى التي أنارت الطريق، وأيقظت في قلوب العراقيين عزيمة لا تلين. خرج الشبان والشيوخ من كل بيت ومدينة، يحملون أرواحهم على أكفهم، تاركين خلفهم حياة الراحة والأمان ليلتحقوا بساحات القتال.
رجال الحشد الشعبي وأبطال القوات الأمنية: درع العراق الحصين
برز أبطال الحشد الشعبي كصورة ناصعة للبسالة والإيمان. لم يكونوا مجرد مقاتلين، بل كانوا أبناء الأرض، يعرفون أن كل شبر من العراق يستحق الحياة. إلى جانبهم وقفت القوات المسلحة العراقية بكل صنوفها: الجيش، الشرطة الاتحادية، جهاز مكافحة الإرهاب، وأبناء العشائر. كلٌّ منهم قدّم نموذجًا ملهمًا من الشجاعة، فأصبحوا يدًا واحدة، تطرق أبواب النصر من الموصل إلى الأنبار، ومن صلاح الدين إلى الحدود الغربية.
قادة النصر: أسطورة التضحية والوفاء
في هذه الملحمة، لا يمكن أن يُذكر النصر دون الحديث عن قادة النصر، الشهيدين القائدين أبو مهدي المهندس وقاسم سليماني. لم يكونا قائدين عاديين، بل كانا عنوانًا للجرأة والحكمة، يخططان ويشاركان في الميدان، يتقدمان الصفوف، يقودان العمليات بحنكة القادة وإخلاص المحبين. رحلا جسدًا، لكن إرثهما النضالي لا يزال حاضرًا في كل قلب مؤمن بالحرية والكرامة.
الشعب العراقي: السند الحقيقي للنصر
لم يكن النصر ممكنًا لولا وقوف الشعب العراقي خلف أبطاله. من الجنوب إلى الشمال، ومن المدن إلى الأرياف، توحّد العراقيون في دعم قواتهم. فتحت البيوت أبوابها للنازحين، شارك الأهالي بما يملكون، وأرسلوا الطعام والمؤن إلى الجبهات. نساء العراق كنّ في الخلف، يصنعن الرايات ويزرعن الأمل، وأطفال العراق كانوا يكبرون على حلم الوطن الموحد.
لحظة الإعلان: دموع الفرح وعبق الشهادة
عندما أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي يومها تحرير الأرض العراقية بالكامل، سالت دموع الفرح في عيون الملايين. لكنها كانت أيضًا دموع امتزجت بذكرى الشهداء الذين صنعوا هذا المجد. كانت الأرواح الطاهرة التي ارتقت في المعارك ترسل رسائل خالدة: “لقد انتصرنا بأرواحنا ليحيا العراق”.
دروس النصر وتحديات المستقبل
يوم النصر لم يكن فقط نهاية حقبة مظلمة، بل كان بداية عهد جديد. تعلم العراقيون أن الوحدة هي السلاح الأقوى، وأن التضحية من أجل الوطن هي السبيل الوحيد للبقاء. لكن التحديات لا تنتهي. الحفاظ على هذا النصر يتطلب العمل المشترك، ومواصلة البناء، ووأد الفتن التي يحاول أعداء العراق إشعالها.
هذا اليوم سيبقى محفورًا في ذاكرة كل عراقي، وسيُروى للأجيال القادمة باعتباره يومًا انتصرت فيه الإرادة على المستحيل، يومًا برهنت فيه أرض الرافدين أن الشعوب الحية لا تستسلم، وأن العراق الذي نبتت حضارته في عمق التاريخ سيظل حاضرًا، شامخًا، منتصرًا.